
بقلم: كمال سعد.
لا يزال بيرم التونسي برغم مرور أكثر من مائة عام على مولده يثير في نفوسنا الكثير بسخريته ونضارة روحه ورشاقة ألفاظه وتغلغله في حياتنا الشعبية.
وإذا أردت أن تتعرف على هذا الفنان الذي عاش وسط أمواج العذاب الجارفة التي زلزلت كيانه طوال عشرين عاماً قضاها منفياً بعيدا عن الوطن و الأهل، فأنصحك بان تبدأ بقراءة كتابيه "السيد ومراته في باريس"، ثم "السيد ومراته في مصر" فكل منهما صورة كاريكاتورية صارخة تطرح قضايا و مشاكل مجتمعنا بلغة سهلة وميسرة.
ففي كتابه السيد ومراته في باريس نرى السيد ابن الحارة المصرية يصحب زوجته وهي ترتدي الملاية اللف إلى عاصمة النور، أو المدينة التي قطعت شوطا طويلا في ميدان الحضارة الحديثة، حيث ترى وتفهم الناس الذين أداروا ظهورهم لكل مظاهر التخلف والفوضى، ففي مدينة السياح و الصعاليك يكتشف الزوجان انه لا مكان لحجاب الزوجة في عالم اعترف بحرية المرأة وجعلها تؤمن بالعمل و تصبح حجة في العلم والمعرفة... انه ينزع عنها الحجاب، معلنا خلاصها من القيود التي كبلت المرأة المصرية ومحت شخصيتها لفترة طويلة داخل بيتها وفي قلب مجتمعها، وأثناء تلك الرحلة نلمح ابن الحارة عندما تدفع الرؤيا الجديدة إلى تأكيد إيمانه بضرورة الثورة على التقاليد والأوضاع الاجتماعية البالية، فهو لا ينظر حوله ليرى شريان الحياة يدب في كل مكان، ويتذكر مصر وأحوال أهلها فيحس بأوجاع لا طاقة لإنسان عليها، نتيجة تخلفنا المريع وإهمالنا للنظافة، ويرسم صورة في غاية السخرية من شوارعنا التي تهطل عليها الزبالة من البيوت مثل الأمطار، ولسيداتنا اللاتي يؤمن بان الكناسة من علامان الخير، والواحدة من هؤلاء ما إن تطبخ طبخة طيبة، حتى تسرع إلى رمي بقاياها من الدور الرابع تحدثاً بنعمة الله، وليعرف الحيران أنها طبخت إوزة، أو التهمت مجموعة من علب السردين اللي جابها الأفندي جوزها، الذي تعطيه دائما هذا اللقب احتراما لشانه، ومباهاة به أمام أهل الحتة، وأيضا رهبة من طلعته البهية!
وفي هذا الكتاب يلقي بيرم التونسي الضوء على مظاهر السلوك الاجتماعي عندنا وعند الغرب، ويصل بقلمه إلى كل شيء من أول الفران الذي يأكل صينية اللحم ثم يحرقها، والمرأة البدينة التي ترتدي فستانا "محزق" إلى عادات العمل والزواج والعلاقات الإنسانية وفهمنا الخاطئ لدور الدين الذي لم نأخذ منه سوى المظهر بينما تركنا المضمون!
ويبدأ في باريس يعلم زوجته "سيدة" اجب الموائد وتنظيم مواعيد وجبات الطعام والاستيقاظ المبكر مثل أهل أوروبا الذين لا تجد مخلوقا منهم في السرير بعد السادسة صباحا، باستثناء مرضى المستشفيات!
وتذهب معه إلى مقهى لترى الناس فيه يتناقشون دون صراخ أو ضجيج، فهم يضحكون ويمرحون وإنما بعقل، وصوت هادئ و "ما ينهقوش زي الحمير"!
ويذكرنا عم بيرم بنماذج النساء عندنا تظل الواحدة منهن تعاير زوجها بأنه لا يحقق لها كل طلباتها، فيضطر في النهاية إلى اختلاس العهدة، ودفع الثمن سنوات من حياته وراء القضبان!
وتتوالى انتقادات بيرم لعاداتنا السيئة بصراحة لا لف فيها ولا دوران، فيرسم صورة ساخرة لمتعصبي كرة القدم، وساعي البريد، والكمساري، والأم الجاهلة و الألفاظ الجارحة، والزوجة المهملة، وضياع الأطفال، والهوان الاجتماعي، من خلال الفاض قاسية يحاول بها إيقاظنا من النوم العميق!
ويعود بعد جولة الانفتاح على الدنيا مع زوجته إلى مصر، ليجعلنا نتساءل: هل سيتغير سلوكهما وسط الناس، وينشران الحياة التي لا تعرف المظاهر أو الخداع؟
إنها رحلة أخرى مع السيد بيرم ومراته بعد عودتهما من باريس إلى بيتهما في جزيرة بدران، وهي رحلة تستحق منا وقفة أخرى مع فنان الشعب..
0 comments:
Post a Comment