لأني مثقف



بقلم: محمد فتحي

لأني مثقف فانا لم أتزوج أو ارتبط حتى الآن.... إلى أن قابلتها....
تعرفت عليها في المكتبة.....
إن من تقضي ثمانية ساعات في المكتبة العامة لهي دودة قراءة منقرضة في هذا العصر الانوي اللامثقف!!
وبدون مقدمات أحببتها.... نظرة واحدة لعينيها كانت كافية لان اقرأ (أطلس) العشق الذي لم اعرفه من قبل...
وعرفت أن اسمها (مي).... يا للصدفة المنتقاة بعناية اختيار سلالات هجين البسلة في تجارب مندل!!
اسمها (مي)... اسم يذكرني ب (مي زيادة)... وللصدفة (ذات الوصف السابق) اسمي (عباس) ولكن ليس العقاد طبعا...
وهكذا ترددت خطواتي المشتاقة على المكتبة لثلاثة أشهر عشقا مني لرؤية (مي) من بين شرنقات المعرفة الإنسانية.... ولعلها لاحظت نظراتي الديناميكية المتغيرة التردد إليها، وهو ما جعلني أقدم على اتخاذ خطوة في الطريق الايجابي...
لقد عرفتها بنفسي وفوجئت بأنها- ويا للصدفة التي سبق وصفها- تعرفني... بل- ويا للثقافة المندثرة- تسمع عن مؤلفاتي في شتى مجالات العلوم.
ويوما بعد يوم توطدت علاقتي بجلجلاتها الأسطورية....
أناملها المقدسة التي تصافحني في اغتراب منفى للا كونية العشق الأزلي!
شعرها الذي يتطاير- بفعل خلطة الغازات الهوائية- ليأخذ قلبي في رحلة إلى مدن الشوق اللا مرئية ثم يعود به مرة أخرى إلى واقعه عديم النظرة البؤرية المركبة!!
عينيها.... تلك الأطياف السرمدية التي تبعثني طفلا يسبح- دائما أبدا- في دموع نهر المعرفة!!
باختصار..... أنا اعشقها....
ثم إنها جميلة وتتردد على المكتبة يوميا قاضية فيها وقتها كله تقريبا...
قلما تجد فتاة تجتمع فيها الثقافة مع الجمال في عصرنا هذا، ولكنني وجدتها قبلك...."مي".....
على الفور تقدمت لها.... ودون بيروقراطية أسرية بغيضة وافقت عائلتها.... وهكذا جاءت تلك الفترة كي تكون أجمل أيام عمري.... ثم صارت أسوأها.....
لقد اكتشفت أنها كانت تتردد على المكتبة لأنها تعمل هناك.....
ولكن الكارثة الكبرى اتضحت لي فيما بعد، لقد تيقنت أن معلوماتها العامة إلى جانب معلومات أي طفيل أميبي متحوصل هي فاي الي اليسار.....
ولأنني عشقتها بحق فلم أيأس..... ولم اتركها....
لقد أخذت الأمر تحديا شخصيا..... سأجعل منها مثقفة لا يُشق لها غبار في فترة خطبتنا هذه التي كانت مثمرة فكريا بالنسبة لي.....
لقد كتبت فيها أجمل قصائد الشعر العربي الحداثي، وأهديتها إلى (مي)..... ونالت قصيدتي (الباصقون على ظلمات القلب) إعجاب النقاد الذين قالوا عنها أنها "انقلاب في الشعر العربي الحداثي والمعاني النائية عن فكر اللا انتماء الذي ساد الحقبة الزمنية الراهنة".
وهكذا كتبت قصيدة أخرى كان لها نفس ثناء سابقتها.... ثم قصيدة ثالثة ورابعة وخامسة..... وأخيرا المعجزة الشعرية "المتبولون على أطلال الذكريات"......
وكانت صدمة أخرى.....
لقد أهديت القصيدة الأخيرة أيضا إلى (مي) ولكنها لم تفهم منها شيئا يُذكر.....
ارايتم المهزلة الأوتوقراطية لهذا الحب الأفلاطوني منقرض الأجواء؟
ولكن لا....
لقد تشرنقت على نفسي وتحوصلت مع أبحاثي المستفيضة في مجالات العلم الموسوعية كي اعد لها المنهج الذي سيجعلها مثقفة بالصف الأول لرعيل المثقفين المبتدئين.....
وهكذا أخبرتها بان استمرار علاقتنا مرهون بانتهاء تلك الشيزوفيرينا الفكرية التي أحدثت انقساما في وحدتنا العضوية للبنية العشقية التحتية!!
ولأنها تعشقني فقد رضخت للأمر....
ولثلاثة شهور انكبت على القراءة والدراسة المكثفة حتى تصبح ذات شخصية اعتبارية ثقافية يُؤخذ بأهليتها في شرفات القلب....
ثم قابلتها بعد انتهائها......
كانت علامات نجاحي ظاهرة على وجهها.... فقد اختفت الابتسامة اللقيطة اللزجة التي كانت محفورة ككتابات هيروغليفية عتيقة على شفتيها، ثم إن عينيها اختفت خلف عوينات أعطتها مظهرا ثقافيا متحدب الأهداب....
صافحتني بلهجة ثقافية ظاهرة وبانت على ألفاظها بوادر توحد اصطلاحي مع المجمع اللغوي!!
رحنا نتناقش لسويعات عن الفرق بين الديالوج الإغريقي والكتالوج الكيني، كما أنني انبهرت بوجهة نظرها الثاقبة في (أيدلوجية الإغريق والرومان لبناء عقل نابض بالعلاقات لا محسومة المنظومة الواعية والتي تأثر بها العرب).......
وهكذا استرحت.... وتسرعت في طلب تحديد موعد لزفافنا، إلا أنها فاجأتني بنظرة عشارية الأبعاد لا متناهية الضفة الشرقية للحائط الرابع....
من نظرتها تلك أدركت أن شيئا ما قد حدث.... شيء ما يرتبط بمحاولة فاضلة لإظهار بعد ثقافي جديد لجلستنا الرومانسية متعددة الرؤى التكنونية!!
عرفت أنها كتبت قصيدة رائعة أهدتها إلي.....
بدأت اقرأ: "سيبولون في سراويلهم ويبتلون.....
ويتألمون ويتقيئون
ويهاجرون إلى مسرح البالون،
اّها.... بداية حداثية اصطدامية مع الخبرات المتراكمة داخل عقليتي الشعرية العتيقة...
مسرح البالون..... لفظ جديد على الشعر الحداثي.....
"فاتركني وكن منهم....
واذهب إلى سرور الجحيم.....
أيها المافون"
لم أكد اقرأ السطر الأخير حتى فوجئت بها تقوم وتبصق على وجهي بصق تنين منقرض جف اللهب من لعابه... ثم إنها أردفت: "علاقتنا انتهت" .
تركتني وانصرفت وسط دهشتي ذات اللب الحائر.
تلك الوغدة....ال....ال.......
ملحوظة (السطور السابقة من كتاب اعترافات مثقف للراحل "عباس حداثه").......

0 comments:

Post a Comment